دبا.. إحدى مدن عمان، بل إحدى حواضرها الضاربة في عمق التاريخ، والتي سطر أبناؤها مفاخر خالدة ظلت رموزا شاهدة على مساهمة العمانيين في بناء التاريخ الإنساني بشكل عام، والحضارة الإسلامية بشكل خاص.
وحين تذكر مدينة دبا في مؤلفات المسلمين في التاريخ والجغرافيا فإنها تأتي في سياقين متلازمين، إذ تذكر بأنها إحدى مدن العرب المشهورة، كما يأتي ذكرها مقترنا بذكر الوطن الأم عُمان، وفي ذلك دلالة على مكانة المدينة وحجم تأثيرها في تاريخ المنطقة بشكل عام وعُمان بشكل خاص، فحين يذكر ياقوت الحموي دبا في كتابه معجم البلدان يقول: "هي مدينة قديمة مشهورة لها ذكر في أيام العرب، وكانت قديما قصبة عمان"، أي عاصمتها، كما يذكرها ابن حبيب في كتابه المحبر بأنها فرضة من فرض العرب، والفرضة بمعنى الميناء، وهو عين ما ذكره المقدسي أيضا في كتابه أحسن التقاسيم: "ميناء على خليج عمان"، بل يذهب ابن خرداذبة في كتابه المسالك والممالك إلى أبعد من ذلك حين يجعل عمان من وجهة نظره إنما هي "صحار ودبا"، ليجعل دبا إحدى المدن الدالة على عمان، ورمزا من رموزها التي لا تخطئها العين.
ومما زاد من أهمية دبا كونها أحد أبرز موانئ شبه الجزيرة العربية، قيام سوقها السنوي، الذي يعد أحد أبرز أسواق العرب المشهورة قبل الإسلام، حيث كان يقام في آخر يوم من شهر رجب من كل عام ولمدة خمسة أيام. وتميز سوق دبا عن غيره من أسواق العرب أنه كان يأتي إليه تجار العرب وتجار الشرق من الهند والسند والصين وغيرها، فتجتمع فيه منتجات بلاد العرب والبضائع المستوردة من غيرها، ما يشير إلى تنوع البضائع فيه وكثرة قاصديه.
وتبرز الأهمية السياسية لمدينة دبا في التاريخ العماني من خلال عناية ملوك عمان بها، إذ كانت إدارة سوقها السنوي تتم تحت إشراف الملك الجلندى بن المستكبر، ولا يباع فيها حتى تباع بضاعته، كما أنه كان يفرض العشور على التجار في السوق. وعند ظهور الإسلام كانت دبا إحدى المدن التي بعث إليها جيفر بن الجلندى برسائله ليعلم أهلها بقبوله دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أجابه أهلها بقبول الدعوة كدليل على ترابط الحواضر العمانية سياسيا وتقارب الفكر السائد فيها آنذاك. هذا وقد دار نقاش واسع بين المؤرخين عن حدوث ردة في المدينة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث ذكر بأن أهل مدينة دبا ارتدوا عن الإسلام، وبعث إليهم الخليفة أبو بكر الصديق جيشا لحربهم، إلا أن الفقهاء والمؤرخون العمانيون ينفون عن دبا التي أسلمت طوعا تلك التهمة، إذ أن ما حدث لم يكم ردة ولم يكن منعا للزكاة، وإنما كان سوء فهم حول مقدار زكاة امرأة منهم، فأعقبها ما أعقبها من تهمة لأهل المدينة وهم براء من ذلك كما ذكر ذلك غير واحد من فقهاء عمان في القرنين الثالث والرابع الهجري مثل: أبو قحطان خالد بن قحطان وأبو الحواري محمد بن الحواري وغيرهما ممن جاء بعدهم.
وقد أنجبت المدينة عددا من الأعلام الذين كان لهم بروزهم خل تلك الفترة، إذ برز منهم جعفر بن خشم العتكي وأبو صفرة ظالم بن سارق وهما من الوفد العماني المكون من سبعين رجلا برئاسة عبد بن الجلندى، والذين خرجوا بصحبة عمرو بن العاص إلى المدينة بعدما بلغهم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أعلام المدينة أيضا سبيعة بن غزال الصليمي والمعلى بن سعد الحمامي والحارث بن كلثوم الجُديدي وهم من الوفد العماني الذي ذهب إلى المدينة لرد سبي أهل دبا بعد اتهامهم بالردة، وقد نجحوا في إقناع الخليفة عمر بن الخطاب بعدم ردتهم.
ومن أبرز الذين أنجبتهم المدينة في تلك الفترة القاضي كعب بن سور الأزدي الذي عينه الخليفة عمر بن الخطاب قاضيا على البصرة بعدما رأى فيه من إمارات العلم والذكاء ما يؤهله لتولي قضاء أحد أبرز المدن الناشئة في العالم الإسلامي حينئذ.
هكذا كانت مدينة دبا في الفترة منذ ما قبل الإسلام حتى عهد الخلفاء الراشدين، مدينة عامرة اقتصاديا، ومهمة سياسيا، وحافلة بالرجال الأعلام الذين أسهموا في حركة التاريخ وكان لهم دورهم في بناء الحضارة الإسلامية.